فصل: (كِتَابُ الْمَعَاقِلِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



كِتَابُ الْوَصَايَا:
بَابٌ فِي صِفَةِ الْوَصِيَّةِ:
مَا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ وَمَا يَكُونُ رُجُوعًا عَنْهُ إيرَادُ كِتَابِ الْوَصَايَا فِي آخِرِ الْكِتَابِ ظَاهِرُ الْمُنَاسَبَةِ؛ لِأَنَّ آخِرَ أَحْوَالِ الْآدَمِيِّ فِي الدُّنْيَا الْمَوْتُ، وَالْوَصِيَّةُ مُعَامَلَةٌ وَقْتَ الْمَوْتِ وَلَهُ زِيَادَةُ اخْتِصَاصٍ بِكِتَابِ الْجِنَايَاتِ وَالدِّيَاتِ لِمَا أَنَّ الْجِنَايَةَ قَدْ تُفْضِي إلَى الْمَوْتِ الَّذِي وَقْتُهُ وَقْتُ الْوَصِيَّةِ، وَالْوَصِيَّةُ اسْمٌ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، ثُمَّ سُمِّيَ الْمُوصَى بِهِ وَصِيَّةً، وَهِيَ فِي الشَّرِيعَةِ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ، وَسَبَبُهَا سَبَبُ التَّبَرُّعَاتِ وَشَرَائِطُهَا كَوْنُ الْمُوصِي أَهْلًا لِلتَّبَرُّعِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مَدْيُونًا، وَكَوْنُ الْمُوصَى لَهُ حَيًّا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يُولَدْ، وَأَجْنَبِيًّا عَنْ الْمِيرَاثِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ قَاتِلًا، وَكَوْنُ الْمُوصَى بِهِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي شَيْئًا قَابِلًا لِلتَّمْلِيكِ مِنْ الْغَيْرِ بِعَقْدٍ مِنْ الْعُقُودِ حَالَ حَيَاةِ الْمُوصِي سَوَاءٌ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْحَالِ أَوْ مَعْدُومًا، وَأَنْ يَكُونَ بِمِقْدَارِ الثُّلُثِ.
وَرُكْنُهَا أَنْ يَقُولَ: أَوْصَيْتُ بِكَذَا لِفُلَانٍ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِيهَا.
وَأَمَّا حُكْمُ الْوَصِيَّةِ فَفِي حَقِّ الْمُوصَى لَهُ أَنْ يَمْلِكَ الْمُوصَى بِهِ مِلْكًا جَدِيدًا كَمَا فِي الْهِبَةِ وَفِي حَقِّ الْمُوصِي إقَامَةُ الْمُوصَى لَهُ فِيمَا أَوْصَى بِهِ مَقَامَ نَفْسِهِ كَالْوَارِثِ.
وَصِفَتُهَا مَا ذَكَرَهُ قَالَ (الْوَصِيَّةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ) وَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَهَا لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى حَالِ زَوَالِ مَالِكِيَّتِهِ، وَلَوْ أُضِيفَ إلَى حَالِ قِيَامِهَا بِأَنْ قِيلَ مَلَّكْتُك غَدًا كَانَ بَاطِلًا فَهَذَا أَوْلَى، إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّاهُ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهَا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَغْرُورٌ بِأَمَلِهِ مُقَصِّرٌ فِي عَمَلِهِ، فَإِذَا عَرَضَ لَهُ الْمَرَضُ وَخَافَ الْبَيَانَ يَحْتَاجُ إلَى تَلَافِي بَعْضِ مَا فَرَّطَ مِنْهُ مِنْ التَّفْرِيطِ بِمَالِهِ عَلَى وَجْهٍ لَوْ مَضَى فِيهِ يَتَحَقَّقُ مَقْصِدُهُ الْمَآلِيُّ، وَلَوْ أَنْهَضَهُ الْبُرْءُ يَصْرِفُهُ إلَى مَطْلَبِهِ الْحَالِيِّ، وَفِي شَرْعِ الْوَصِيَّةِ ذَلِكَ فَشَرَعْنَاهُ، وَمِثْلُهُ فِي الْإِجَارَةِ بَيَّنَّاهُ، وَقَدْ تَبْقَى الْمَالِكِيَّةُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ كَمَا فِي قَدْرِ التَّجْهِيزِ وَالدَّيْنِ، وَقَدْ نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وَالسُّنَّةُ وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً لَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ تَضَعُونَهَا حَيْثُ شِئْتُمْ» أَوْ قَالَ «حَيْثُ أَحْبَبْتُمْ» وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ.
ثُمَّ تَصِحُّ لِلْأَجْنَبِيِّ فِي الثُّلُثِ مِنْ غَيْرِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ لِمَا رَوَيْنَا، وَسَنُبَيِّنُ مَا هُوَ الْأَفْضَلُ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّرْحُ:
بِقَوْلِهِ (الْوَصِيَّةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ) فَقَوْلُهُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ رَدٌّ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إذَا كَانُوا مِمَّنْ لَا يَرِثُونَ فَرْضٌ، وَلِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مِمَّنْ لَهُ ثَرْوَةٌ وَيَسَارٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} وَالْمَكْتُوبُ عَلَيْنَا فَرْضٌ، وَلَمَّا لَمْ يُفْهَمْ الِاسْتِحْبَابُ مِنْ نَفْيِ الْوُجُوبِ لِجَوَازِ الْإِبَاحَةِ قَالَ: وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ وَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَهَا؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى حَالِ زَوَالِ مَالِكِيَّتِهِ، وَلَوْ أَضَافَهُ إلَى حَالِ قِيَامِهَا بِأَنْ قَالَ مَلَّكْتُكَ غَدًا كَانَ بَاطِلًا فَهَذَا أَوْلَى، إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّاهُ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهَا، إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ (وَمِثْلُهُ فِي الْإِجَازَةِ بَيَّنَّاهُ) فِي أَنَّهَا عَقْدٌ يَأْبَى الْقِيَاسُ جَوَازَهَا لِكَوْنِهَا مُضَافَةً إلَى زَمَانٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَكَانَ جَوَازُهُ بِالِاسْتِحْسَانِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ (وَقَدْ تَبْقَى الْمِلْكِيَّةُ بَعْدَ الْمَوْتِ) جَوَابٌ عَنْ وَجْهِ الْقِيَاسِ، وَقَوْلُهُ (وَقَدْ نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ) بَيَانٌ لِوَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ.
وَقَدْ اسْتَدَلَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى نَسْخِ قَوْله تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ} بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي أُصُولِهِ وَقَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَتَّبَ الْمَوَارِيثَ عَلَى وَصِيَّةٍ نَكِرَةٍ وَالْوَصِيَّةُ الْأُولَى كَانَتْ مَعْهُودَةً فَإِنَّهَا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ بَاقِيَةً مَعَ الْمِيرَاثِ لَرَتَّبَ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ عَلَيْهَا، وَبَيَّنَ بِأَنَّ هَذَا الْمِقْدَارَ بِعَدَدِ الْمِقْدَارِ الْمَفْرُوضِ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ مَحَلُّ بَيَانِ مَا فُرِضَ لِلْوَالِدَيْنِ، وَحَيْثُ رَتَّبَهَا عَلَى وَصِيَّةٍ مُنَكَّرَةٍ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ الْمَفْرُوضَةَ لَمْ تَبْقَ لَازِمَةً بَلْ بَعْدَ أَيِّ وَصِيَّةٍ كَانَتْ نَصِيبُهُمَا ذَلِكَ الْمِقْدَارَ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ الْمَفْرُوضَةِ وَإِذَا انْتَسَخَ الْوُجُوبَ انْتَسَخَ الْجَوَازُ عِنْدَنَا.
وَذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَجْهًا آخَرَ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ وَاسْتِدْلَالُهُ بِالسُّنَّةِ ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَعَلَيْهِ) أَيْ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ (إجْمَاعُ الْأُمَّةِ) وَقَوْلُهُ (لِمَا رَوَيْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ» مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِإِجَازَةٍ.
وَقَوْلُهُ (وَسَنُبَيِّنُ مَا هُوَ الْأَفْضَلُ فِيهِ) أَيْ: فِي فِعْلِ الْوَصِيَّةِ أَوْ فِي قَدْرِ الْوَصِيَّةِ قَالَ (وَلَا تَجُوزُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ) لِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» بَعْدَ مَا نَفَى وَصِيَّتَهُ بِالْكُلِّ وَالنِّصْفِ، وَلِأَنَّهُ حَقُّ الْوَرَثَةِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ انْعَقَدَ سَبَبُ الزَّوَالِ إلَيْهِمْ وَهُوَ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنْ الْمَالِ فَأَوْجَبَ تَعَلُّقَ حَقِّهِمْ بِهِ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يُظْهِرْهُ فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ بِقَدْرِ الثُّلُثِ لِيَتَدَارَكَ مَصِيرَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَأَظْهَرَهُ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يُتَصَدَّقُ بِهِ عَلَيْهِمْ تَحَرُّزًا عَمَّا يَتَّفِقُ مِنْ الْإِيثَارِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «الْحَيْفُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ» وَفَسَّرُوهُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ وَبِالْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ.
قَالَ (إلَّا أَنَّ يُجِيزَهُ الْوَرَثَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُمْ كِبَارٌ) لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ لِحَقِّهِمْ وَهُمْ أَسْقَطُوهُ (وَلَا مُعْتَبَرَ بِإِجَازَتِهِمْ فِي حَالِ حَيَاتِهِ) لِأَنَّهَا قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَقِّ إذْ الْحَقُّ يَثْبُتُ عِنْدَ الْمَوْتِ فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَقِّ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْهُ، لِأَنَّ السَّاقِطَ مُتَلَاشٍ.
غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ يُسْتَنَد عِنْدَ الْإِجَازَةِ، لَكِنَّ الِاسْتِنَادَ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْقَائِمِ وَهَذَا قَدْ مَضَى وَتَلَاشَى، وَلِأَنَّ الْحَقِيقَةَ تَثْبُتُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَهُ يَثْبُتُ مُجَرَّدُ الْحَقِّ، فَلَوْ اسْتَنَدَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ يَنْقَلِبُ حَقِيقَةً قَبْلَهُ، وَالرِّضَا بِبُطْلَانِ الْحَقِّ لَا يَكُونُ رِضًا بِبُطْلَانِ الْحَقِيقَةِ وَكَذَا إنْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ وَأَجَازَهُ الْبَقِيَّةُ فَحُكْمُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ.
الشَّرْحُ:
(وَلَا تَجُوزُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) وَهُوَ مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْآثَارِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ «دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَأُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟ قَالَ لَا، فَقُلْتُ فَبِالنِّصْفِ؟ قَالَ لَا، قُلْتُ: فَبِالثُّلُثِ؟ قَالَ: الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، لَا تَدَعُ أَهْلَك يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: «إنَّكَ إنْ تَدَعْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ».
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ) ظَاهِرٌ، وَالضَّمِيرُ الْبَارِزُ فِي قَوْلِهِ لَمْ يَظْهَرْهُ وَأَظْهَرَهُ لِلِاسْتِغْنَاءِ.
وَقَوْلُهُ (تَحَرُّزًا عَمَّا يَتَّفِقُ مِنْ الْإِيثَارِ) أَيْ احْتِرَازٌ عَمَّا يُوجَدُ مِنْ تَأَذِّي الْبَعْضِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ بِسَبَبِ (إيثَارِ) الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ عَلَى (مَا نُبَيِّنُهُ) يَعْنِي عِنْدَ قَوْلِهِ بَعْدَ هَذَا وَلَا تَجُوزُ لِوَارِثٍ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْحَيْفُ فِي الْوَصِيَّةِ، رُوِيَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ وَهُوَ الظُّلْمُ، وَرُوِيَ الْجَنَفُ بِالْجِيمِ وَالنُّونِ الْمَفْتُوحَتَيْنِ وَهُوَ الْمَيْلُ.
وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنْ تُجِيزَ الْوَرَثَةُ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا تَجُوزُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، وَقَوْلُهُ؛ (لِأَنَّ السَّاقِطَ مُتَلَاشٍ) دَلِيلُ قَوْلِهِ فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ.
وَتَقْرِيرُهُ؛ لِأَنَّ إجَازَتَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَتْ سَاقِطَةً لِعَدَمِ مُصَادَفَتِهَا مَحَلًّا وَالسَّاقِطُ مُتَلَاشٍ فَإِجَازَتُهُمْ مُتَلَاشِيَةٌ، فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوا بَعْدَ الْمَوْتِ مَا أَجَازُوهُ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمُوصِي.
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ مُصَادَفَةِ الْمَحَلِّ فَإِنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ ثَبَتَ فِي مَالِ الْمُورَثِ مِنْ أَوَّلِ الْمَرَضِ حَتَّى مَنَعَ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي الثُّلُثَيْنِ، فَلَمَّا مَاتَ ظَهَرَ أَنَّهَا صَادَفَتْ مَحَلَّهَا فَصَارَتْ كَإِجَازَتِهِمْ بَعْدَ مَوْتِ الْمُورَثِ بِسَبَبِ الِاسْتِنَادِ، أَجَابَ بِقَوْلِهِ (غَايَةُ الْأَمْرِ) يَعْنِي: أَنَّ حَقَّهُمْ وَإِنْ اسْتَنَدَ إلَى أَوَّلِ الْمَرَضِ لَكِنَّ الِاسْتِنَادَ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْقَائِمِ: يَعْنِي كَمَا فِي الْعُقُودِ الْمَوْقُوفَةِ إذَا لَحِقَتْهَا الْإِجَارَةُ، وَكَثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْغَصْبِ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ؛ فَإِنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِيهِمَا مُسْتَنِدًا إلَى أَوَّلِ الْعَقْدِ وَالْغَصْبِ (وَهَذَا) يَعْنِي مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْإِجَازَةِ (قَدْ مَضَى وَتَلَاشَى) حِينَ وَقَعَ إذَا لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ فَلَا يَلْحَقُهَا الِاسْتِنَادُ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْحَقِيقَةَ) دَلِيلٌ آخَرُ تَقْرِيرُهُ حَقِيقَةُ الْمِلْكِ لِلْوَارِثِ تَثْبُتُ عِنْدَ الْمَوْتِ لَا قَبْلَهُ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ قَبْلَهُ مُجَرَّدُ حَقِّ الْمِلْكِ فَلَوْ اسْتَنَدَ مِلْكُهُ إلَى أَوَّلِ الْمَرَضِ (مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَانْقَلَبَ الْحَقُّ حَقِيقَةً) وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِوُقُوعِ الْحُكْمِ قَبْلَ السَّبَبِ وَهُوَ مَرَضُ الْمَوْتِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ دَفْعًا لِوَهْمِ مَنْ يَقُولُ حَقُّ الْوَارِثِ يَتَعَلَّقُ بِمَالِ الْمُورَثِ مِنْ أَوَّلِ الْمَرَضِ حَتَّى مَنَعَ ذَلِكَ التَّعَلُّقُ تَصَرُّفَ الْمُورَثِ فِي الثُّلُثَيْنِ فَيَجِبُ أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُ ذَلِكَ التَّعَلُّقِ فِي حَقِّ إسْقَاطِهِمْ بِالْإِجَازَةِ أَيْضًا.
وَوَجْهُ الدَّفْعِ أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ أَثَرُ ذَلِكَ التَّعْلِيقِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا لَانْقَلَبَ الْحَقُّ حَقِيقَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ لِمَا مَرَّ، فَإِنْ قِيلَ: الْوَارِثُ إذَا عَفَا عَنْ جَارِحِ أَبِيهِ قَبْلَ مَوْتِ أَبِيهِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ لَا يَلْزَمَ مِنْ الِاسْتِنَادِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ قَلْبُ الْحَقِّ حَقِيقَةً، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ هَذَا الْقَلْبُ مَانِعًا.
أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا الْقَلْبَ مَانِعٌ إذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ السَّبَبُ وَالْجُرْحُ سَبَبُ الْمَوْتِ وَقَدْ تَحَقَّقَ، بِخِلَافِ الْإِجَازَةِ فَإِنَّ السَّبَبَ لَمْ يَتَحَقَّقْ ثَمَّةَ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ مَرَضُ الْمَوْتِ وَمَرَضُ الْمَوْتِ هُوَ الْمُتَّصِلُ بِالْمَوْتِ، فَقَبْلَ الِاتِّصَالِ لَوْ انْقَلَبَ الْحَقُّ حَقِيقَةً وَقَعَ الْحُكْمُ قَبْلَ السَّبَبِ وَهُوَ بَاطِلٌ، فَنَحْنُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ نُبْطِلَ الْعَفْوَ عَنْ الْجَارِحِ نَظَرًا إلَى عَدَمِ الْحَقِيقَةِ، وَإِمَّا أَنْ نُجِيزَ الْإِجَازَةَ نَظَرًا إلَى وُجُودِ الْحَقِّ وَفِي ذَلِكَ إبْطَالٌ لِأَحَدِهِمَا، فَقُلْنَا: لَا تَجُوزُ الْإِجَازَةُ نَظَرًا إلَى انْتِفَاءِ الْحَقِيقَةِ، وَجَازَ الْعَفْوُ نَظَرًا إلَى وُجُودِ الْحَقِّ، وَلَمْ نَعْكِسْ لِكَوْنِ الْعَفْوِ مَطْلُوبَ الْحُصُولِ.
وَقَوْلُهُ (وَالرِّضَا بِبُطْلَانِ الْحَقِّ لَا يَكُونُ رِضًا بِبُطْلَانِ الْحَقِيقَةِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْإِجَازَةُ إسْقَاطٌ مِنْ الْوَارِثِ لِحَقِّهِ بِرِضَاهُ فَكَانَ كَسَائِرِ الْإِسْقَاطَاتِ وَفِيهِ لَا رُجُوعَ فَكَذَا فِيهَا.
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ قَدْ عُرِفَ أَنَّ ثَمَّةَ حَقًّا وَحَقِيقَةً، وَإِنَّمَا رَضِيَ بِبُطْلَانِ الْحَقِّ لَا بِبُطْلَانِ الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الرِّضَا بِبُطْلَانِهَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودَهَا وَلَا وُجُودَ لَهَا قَبْلَ السَّبَبِ.
وَقَوْلُهُ (وَكَذَا إنْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ) ظَاهِرٌ. وَكُلُّ مَا جَازَ بِإِجَازَةِ الْوَارِثِ يَتَمَلَّكُهُ الْمُجَازُ لَهُ مِنْ قِبَلِ الْمُوصِي عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْ قِبَلِ الْوَارِثِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِأَنَّ السَّبَبَ صَدَرَ مِنْ الْمُوصِي، وَالْإِجَازَةُ رَفْعُ الْمَانِعِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ الْقَبْضُ فَصَارَ كَالْمُرْتَهَنِ إذَا أَجَازَ بَيْعَ الرَّاهِنِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَكُلُّ مَا جَازَ بِإِجَازَةِ الْوَارِثِ يَتَمَلَّكُهُ الْمُجَازُ لَهُ مِنْ قِبَلِ الْمُوصِي) ذَكَرَهُ تَعْرِيفًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْقُدُورِيِّ.
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ بِنَفْسِ الْمَوْتِ صَارَ قَدْرُ الثُّلُثَيْنِ مِنْ الْمَالِ مَمْلُوكًا لِلْوَارِثِ،؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ يَثْبُتُ لِلْوَارِثِ بِغَيْرِ قَبُولِهِ وَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ، فَإِجَازَتُهُ تَكُونُ إخْرَاجًا عَنْ مِلْكِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَذَلِكَ هِبَةٌ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ.
وَلَنَا أَنَّ الْمُوصِيَ صَدَرَ مِنْهُ السَّبَبُ، وَكُلُّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ السَّبَبُ يَثْبُتُ مِنْهُ الْمِلْكُ، وَكُلُّ ذَلِكَ ظَاهِرٌ فَالْمُوصَى لَهُ يَتَمَلَّكُ مِنْ الْمُوصِي.
وَقَوْلُهُ (وَالْإِجَازَةُ رَفْعُ الْمَانِعِ) جَوَابٌ عَنْ جَعْلِ الْإِجَازَةِ إخْرَاجًا عَنْ الْمِلْكِ: يَعْنِي أَنَّ الْإِجَازَةَ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِلْخُرُوجِ عَنْ الْمِلْكِ وَإِنَّمَا هُوَ رَفْعٌ لِلْمَانِعِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ الْقَبْضُ) رَدٌّ لِكَوْنِهَا هِبَةً فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: لَوْ كَانَ هِبَةً لَكَانَ الْقَبْضُ شَرْطًا وَهُوَ مَمْنُوعٌ فَصَارَ مَا نَحْنُ فِيهِ كَالْمُرْتَهِنِ إذَا أَجَازَ بَيْعَ الرَّهْنِ فِي كَوْنِ السَّبَبِ صَدَرَ مِنْ الرَّاهِنِ وَالْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي يَثْبُتُ مِنْ قِبَلِهِ، فَإِجَازَةُ الْمُرْتَهِنِ رَفْعُ الْمَانِعِ.
وَعُورِضَ بِأَنَّ الْوَارِثَ إنْ أَجَازَ الْوَصِيَّةَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ كَانَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مَالِكًا فَيَكُونُ التَّمْلِيكُ مِنْ جِهَتِهِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْوَارِثَ كَانَ لَهُ حَقٌّ أَسْقَطَهُ بِالْإِجَازَةِ، وَإِسْقَاطُ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ مُعْتَبَرٌ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَمْلِيكًا كَالْعِتْقِ، وَالْفَائِدَةُ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا أَجَازَ فِي مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَإِنَّ الْإِجَازَةَ صَحِيحَةٌ، وَتَصِيرُ مِلْكًا لِلْمُوصَى لَهُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، وَيُجْبَرُ الْوَارِثُ عَلَى التَّسْلِيمِ بَعْدَهَا عِنْدَنَا، وَلَوْ كَانَ التَّمْلِيكُ مِنْ جِهَةِ الْوَارِثِ. قَالَ (وَلَا يَجُوزُ لِلْقَاتِلِ عَامِدًا كَانَ أَوْ خَاطِئًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُبَاشِرًا) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا وَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ» وَلِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مَا أَخَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَيَحْرُمُ الْوَصِيَّةُ كَمَا يَحْرُمُ الْمِيرَاثُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَجُوزُ لِلْقَاتِلِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ ثُمَّ إنَّهُ قَتَلَ الْمُوصِيَ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا تَبْطُلُ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ فِي الْفَصْلَيْنِ مَا بَيَّنَّاهُ (وَلَوْ أَجَازَتْهَا الْوَرَثَةُ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا تَجُوزُ) لِأَنَّ جِنَايَتَهُ بَاقِيَةٌ وَالِامْتِنَاعُ لِأَجْلِهَا.
وَلَهُمَا أَنَّ الِامْتِنَاعَ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ لِأَنَّ نَفْعَ بُطْلَانِهَا يَعُودُ إلَيْهِمْ كَنَفْعِ بُطْلَانِ الْمِيرَاثِ، وَلِأَنَّهُمْ لَا يَرْضَوْنَهَا لِلْقَاتِلِ كَمَا لَا يَرْضَوْنَهَا لِأَحَدِهِمْ.
قَالَ (وَلَا تَجُوزُ لِوَارِثِهِ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» وَلِأَنَّهُ يَتَأَذَّى الْبَعْضُ بِإِيثَارِ الْبَعْضِ فَفِي تَجْوِيزِهِ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ وَلِأَنَّهُ حَيْفٌ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ، وَيُعْتَبَرُ كَوْنُهُ وَارِثًا أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ وَقْتَ الْمَوْتِ لَا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَحُكْمُهُ يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ.
الشَّرْحُ:
انْعَكَسَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ لِكَوْنِ الْإِجَازَةِ حِينَئِذٍ هِبَةً.
قَالَ (وَلَا تَجُوزُ لِلْقَاتِلِ عَامِدًا كَانَ أَوْ خَاطِئًا إلَخْ) لَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِمُبَاشِرِ الْقَتْلِ عَامِدًا كَانَ أَوْ خَاطِئًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا وَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ» (وَلِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مَا أَخَّرَهُ اللَّهُ فَيُحْرَمُ الْوَصِيَّةَ كَمَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ) وَرُدَّ بِأَنَّ حِرْمَانَ الْإِرْثِ لَا يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ الْوَصِيَّةِ كَمَا فِي الرِّقِّ وَاخْتِلَافِ الدِّينِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ حِرْمَانَ الْقَاتِلِ عَنْ الْمِيرَاثِ بِسَبَبِ مُغَايَظَةِ الْوَرَثَةِ مُقَاسَمَةُ قَاتِلِ أَبِيهِمْ فِي تَرِكَتِهِ وَالْمُوصَى لَهُ يُشَارِكُهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَجَازَ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ، وَالْمُشَابَهَةُ بَيْنَ الْمَقِيسِ وَالْمَقِيسِ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ غَيْرِ مُلْتَزَمٍ، وَلَعَلَّ التَّفَصِّي عَنْ عُهْدَةِ كَوْنِهِ قِيَاسًا عَلَى طَرِيقَتِنَا عَسِرٌ جِدًّا، وَسُلُوكُ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ أَسْهَلُ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ) مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ مِنْهُ فَصَحَّتْ لَهُ كَمَا صَحَّتْ لِغَيْرِهِ (وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ) بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ (إذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ ثُمَّ إنَّهُ قَتَلَ الْمُوصِي تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا تَبْطُلُ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ فِي الْفَصْلَيْنِ) يَعْنِي فِيمَا إذَا كَانَ الْقَتْلُ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ أَوْ بَعْدَهَا (مَا بَيَّنَّاهُ) يَعْنِي مِنْ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ بِإِطْلَاقِهِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ تَقَدُّمِ الْجَرْحِ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَتَأَخُّرِهِ عَنْهَا، وَمِنْ الْمَعْقُولِ الَّذِي ذَكَرَهُ وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ ذَلِكَ صَحِيحٌ إذَا كَانَ الْقَتْلُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْجَرْحُ قَبْلَهَا فَلَا اسْتِعْجَالَ ثَمَّةَ.
وَأُجِيبَ يُجْعَلُ الْجَارِحُ مُسْتَعْجِلًا وَإِنْ تَقَدَّمَ جَرْحُهُ عَلَى الْوَصِيَّةِ لِمَا ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي كَوْنِ الْمُوصَى لَهُ قَاتِلًا أَوْ غَيْرَ قَاتِلٍ لِجَوَازِ الْوَصِيَّةِ وَفَسَادِهَا يَوْمَ الْمَوْتِ لَا يَوْمَ الْوَصِيَّةِ، فَبِالنَّظَرِ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ كَانَ الْقَتْلُ مُؤَخَّرًا عَنْ الْوَصِيَّةِ، وَاعْتُرِضَ بِنَقْضِ إجْمَالِيٍّ بِأَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ لَوْ صَحَّ بِجَمِيعِ مُقَدِّمَاتِهِ لَمَا عَتَقَ الْمُدَبَّرُ إذَا قُتِلَ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ وَهِيَ لَا تَصِحُّ لِلْقَاتِلِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ عِتْقَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ مَوْتَهُ جُعِلَ شَرْطًا لِعِتْقِهِ وَقَدْ وُجِدَ، وَلَكِنْ يَسْعَى الْمُدَبَّرُ فِي جَمِيعِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الرَّدُّ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ لِوُجُودِ شَرْطِ الْعِتْقِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الرَّدَّ فَيُرَدُّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بِإِيجَابِ السِّعَايَةِ (وَلَوْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ الْوَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ بَاقِيَةٌ وَالِامْتِنَاعُ لِأَجْلِهَا.
وَلَهُمَا أَنَّ الِامْتِنَاعَ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ) إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمِيرَاثِ إذَا أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ حَيْثُ صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ دُونَ الْمِيرَاثِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْإِجَازَةَ تَصَرُّفٌ مِنْ الْعَبْدِ فَتَعْمَلُ فِيمَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ وَالْوَصِيَّةُ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ فَتَعْمَلُ فِيهِ، بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ فَإِنَّهُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيهِ فَلَا يَعْمَلُ فِيهِ تَصَرُّفُ الْعَبْدِ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُمْ لَا يَرْضَوْنَهَا) أَيْ الْوَصِيَّةَ (لِلْقَاتِلِ كَمَا لَا يَرْضَوْنَهَا لِأَحَدِهِمْ) أَيْ: لِأَحَدِ الْوَرَثَةِ، وَفِي الْوَصِيَّةِ لِأَحَدِهِمْ إنْ أَجَازَهَا الْبَقِيَّةُ نَفَذَتْ فَكَذَا الْقَاتِلُ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا تَجُوزُ لِوَارِثِهِ) أَيْ لِوَارِثِ الْمُوصِي لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»؛ وَلِأَنَّهُ يَتَأَذَّى الْبَعْضُ إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ (بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ) إشَارَةٌ إلَى مَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ فِيمَنْ خَصَّصَ بَعْضَ أَوْلَادِهِ فِي الْعَطِيَّةِ.
وَقَوْلُهُ (يُعْتَبَرُ كَوْنُهُ وَارِثًا غَيْرَ وَارِثٍ وَقْتَ الْمَوْتِ) ذَكَرَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: وَلَوْ أَوْصَى لِإِخْوَتِهِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَفَرِّقِينَ وَلَهٌ ابْنٌ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَرِثُونَ مَعَ الِابْنِ فَإِنَّ كَانَتْ لَهُ بِنْتٌ مَكَانَ الِابْنِ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْأَخِ لِأَبٍ وَلِلْأَخِ لِأُمٍّ، وَبَطَلَتْ لِلْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ؛ لِأَنَّهُ يَرِثُهُ مَعَ الْبِنْتِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ابْنٌ وَلَا بِنْتٌ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ كُلُّهَا لِلْأَخِ لِأَبٍ لَا يَرِثُهُ، وَبَطَلَتْ لِلْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَلِلْأَخِ لِأُمٍّ لِأَنَّهُمَا يَرِثَانِهِ. وَالْهِبَةُ مِنْ الْمَرِيضِ لِلْوَارِثِ فِي هَذَا نَظِيرُ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ حُكْمًا حَتَّى تَنْفُذَ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِلْوَارِثِ عَلَى عَكْسِهِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الْحَالِ فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ وَقْتَ الْإِقْرَارِ.
قَالَ (إلَّا أَنْ تُجِيزَهَا الْوَرَثَةُ) وَيُرْوَى هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ فِيمَا رَوَيْنَاهُ، وَلِأَنَّ الِامْتِنَاعَ لِحَقِّهِمْ فَتَجُوزُ بِإِجَازَتِهِمْ؛ وَلَوْ أَجَازَ بَعْضٌ وَرَدَّ بَعْضٌ تَجُوزُ عَلَى الْمُجِيزِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ لِوِلَايَتِهِ عَلَيْهِ وَبَطَلَ فِي حَقِّ الرَّادِّ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِلْوَارِثِ عَلَى عَكْسِهِ) أَيْ: عَلَى عَكْسِ الْوَصِيَّةِ بِتَأْوِيلِ الْإِيصَاءِ أَوْ الْمَذْكُورِ: أَيْ يُعْتَبَرُ فِي الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ وَقْتَ الْإِقْرَارِ لَا وَقْتَ الْمَوْتِ.
ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ أَنَّ اعْتِبَارَ وَقْتِ الْإِقْرَارِ دُونَ وَقْتِ الْمَوْتِ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ، بَلْ ذَلِكَ إذَا كَانَ كَوْنُهُ وَارِثًا بِسَبَبٍ حَادِثٍ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ كَوْنُهُ وَارِثًا بِسَبَبٍ كَانَ وَقْتَ الْإِقْرَارِ فَيُعْتَبَرُ كَوْنُهُ وَارِثًا وَقْتَ الْمَوْتِ أَيْضًا.
ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَرِيضٍ أَقَرَّ لِابْنِهِ الْعَبْدِ فَأَعْتَقَ فَمَاتَ الْأَبُ حَيْثُ صَحَّ الْإِقْرَارُ؛ لِأَنَّ وِرَاثَتَهُ ثَبَتَتْ بِسَبَبٍ حَادِثٍ وَهُوَ الْإِعْتَاقُ وَقَبْلَهُ كَانَ عَبْدًا وَكَسْبُ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ فَهَذَا الْإِقْرَارُ فِي الْمَعْنَى حَصَلَ لِلْمَوْلَى وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ فَلَا يَبْطُلُ بِصَيْرُورَةِ الِابْنِ وَارِثًا بِسَبَبٍ حَادِثٍ.
وَلَوْ أَقَرَّ لِأَخِيهِ وَلَهُ ابْنٌ ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ قَبْلَهُ حَتَّى صَارَ الْأَخُ وَارِثًا بَطَلَ إقْرَارُهُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ وَارِثًا بِسَبَبٍ قَائِمٍ وَقْتَ الْإِقْرَارِ تَبَيَّنَ أَنَّ إقْرَارَهُ حَصَلَ لِوَارِثِهِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، هَذَا حَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ.
وَأَرَى أَنَّ إطْلَاقَ الْمُصَنِّفِ يُغْنِي عَنْ ذَلِكَ التَّطْوِيلِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ يُعْتَبَرُ فِي إقْرَارِ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ كَوْنُهُ وَارِثًا عِنْدَ الْإِقْرَارِ وَالْعَبْدُ لَيْسَ بِوَارِثٍ عِنْدَ الْإِقْرَارِ؛ لِكَوْنِهِ مَحْرُومًا فَلَا يَكُونُ إقْرَارًا لِلْوَارِثِ وَكَلَامُنَا فِيهِ وَالْأَخُ لَيْسَ بِمَحْرُومٍ فَيَكُونُ وَارِثًا عِنْدَ الْإِقْرَارِ وَإِنْ كَانَ مَحْجُوبًا، وَالْإِقْرَارُ لِلْوَارِثِ بَاطِلٌ.
وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنْ تُجِيزَهَا الْوَرَثَةُ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا تَجُوزُ لِوَارِثِهِ وَيُرْوَى هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ فِيمَا رَوَيْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ».
وَقَوْلُهُ؛ (وَلِأَنَّ الِامْتِنَاعَ لِحَقِّهِمْ) أَيْ لِحَقِّهِمْ الَّذِي هُوَ تَأَذِّيهمْ بِإِيثَارِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، وَبِالتَّفْسِيرِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ لَوْ كَانَ الِامْتِنَاعُ لِحَقِّهِمْ لَجَازَ فِيمَا دُونَ الثُّلُثَيْنِ أَجَازُوا أَوْ لَمْ يُجِيزُوا؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي الثُّلُثِ كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ لِلْأَجْنَبِيِّ قَوْلُهُ (وَلَوْ أَجَازَ بَعْضٌ) ظَاهِرٌ. قَالَ (وَيَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ الْمُسْلِمُ لِلْكَافِرِ وَالْكَافِرُ لِلْمُسْلِمِ) فَالْأُولَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} الْآيَةَ.
وَالثَّانِي لِأَنَّهُمْ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ سَاوَوْا الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَلِهَذَا جَازَ التَّبَرُّعُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَمَاتِ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الْوَصِيَّةُ لِأَهْلِ الْحَرْبِ بَاطِلَةٌ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} الْآيَةَ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَيَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ الْمُسْلِمُ لِلْكَافِرِ) وَصِيَّةُ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ الذِّمِّيِّ وَعَكْسُهَا جَائِزَةٌ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} الْآيَةَ، نَفْيُ النَّهْيِ عَنْ الْبَرِّ إلَيْهِمْ، وَالْوَصِيَّةُ لَهُمْ بِرٌّ إلَيْهِمْ فَكَانَتْ غَيْرَ مَنْهِيَّةٍ.
وَأَمَّا الثَّانِيَ فَلِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ.
وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ لِأَهْلِ الْحَرْبِ فَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بَاطِلَةٌ، وَقَالُوا فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: إنَّهُ ذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لَهُمْ.
وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْعَلَ، وَإِنْ فُعِلَ ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ.
وَأَمَّا وَصِيَّةُ الْحَرْبِيِّ بَعْدَمَا دَخَلَ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ تَمْلِيكِ مَالِهِ فِي حَيَاتِهِ فَكَذَا بَعْدَ وَفَاتِهِ، خَلَا أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ وَصِيَّتِهِ بِالثُّلُثِ وَبِجَمِيعِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ مَنْعَ الْمُسْلِمِ عَمَّا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِحَقِّ وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ عَنْ الْإِبْطَالِ وَوَرَثَةُ الْحَرْبِيِّ لَيْسَتْ كَذَلِكَ. قَالَ (وَقَبُولُ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِنْ قَبِلَهَا الْمُوصَى لَهُ حَالَ الْحَيَاةِ أَوْ رَدَّهَا فَذَلِكَ بَاطِلٌ) لِأَنَّ أَوَانَ ثُبُوتِ حُكْمِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِتَعَلُّقِهِ بِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ قَبْلَهُ كَمَا لَا يُعْتَبَرُ قَبْلَ الْعَقْدِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَقَبُولُ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ) عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ، وَالْقَبُولُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَرْطُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمُوصَى لَهُ، وَالْوَصِيَّةُ شَبَهٌ بِالْمِيرَاثِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تُمْلَكُ بِالْمَوْتِ، وَشَبَهٌ بِالْهِبَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تُمْلَكُ بِتَمْلِيكِ الْغَيْرِ، فَاعْتَبَرْنَا شَبَهَ الْهِبَةِ فِي حَقِّ الْقَبُولِ مَا دَامَ مُمْكِنًا مِنْ الْمُوصَى لَهُ فَقُلْنَا: لَا تُمْلَكُ قَبْلَ الْقَبُولِ، وَاعْتَبَرْنَا شَبَهَ الْمِيرَاثِ بَعْدَ الْقَبُولِ فَقُلْنَا إنَّهُ يَمْلِكُهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ.
وَإِنْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ مِنْ غَيْرِ رَدٍّ وَقَبُولٍ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَبْطُلُ قِيَاسًا، وَيَلْزَمُ ذَلِكَ وَرَثَةَ الْمُوصَى لَهُ رَدُّوا أَوْ قَبِلُوا فِي الِاسْتِحْسَانِ قَالَ (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُوصِيَ الْإِنْسَانُ بِدُونِ الثُّلُثِ) سَوَاءٌ كَانَتْ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ أَوْ فُقَرَاءَ، لِأَنَّ فِي التَّنْقِيصِ صِلَةَ الْقَرِيبِ بِتَرْكِ مَا لَهُ عَلَيْهِمْ، بِخِلَافِ اسْتِكْمَالِ الثُّلُثِ، لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءُ تَمَامِ حَقِّهِ فَلَا صِلَةَ وَلَا مِنَّةَ، ثُمَّ الْوَصِيَّةُ بِأَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ أَوْلَى أَمْ تَرْكُهَا؟ قَالُوا: إنْ كَانَتْ الْوَرَثَةُ فُقَرَاءَ وَلَا يَسْتَغْنُونَ بِمَا يَرِثُونَ فَالتَّرْكُ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَى الْقَرِيبِ.
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ» وَلِأَنَّ فِيهِ رِعَايَةَ حَقِّ الْفُقَرَاءِ وَالْقَرَابَةِ جَمِيعًا، وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ أَوْ يَسْتَغْنُونَ بِنَصِيبِهِمْ فَالْوَصِيَّةُ أَوْلَى لِأَنَّهُ يَكُونُ صَدَقَةً عَلَى الْأَجْنَبِيِّ، وَالتَّرْكُ هِبَةٌ مِنْ الْقَرِيبِ وَالْأُولَى أَوْلَى لِأَنَّهُ يَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقِيلَ فِي هَذَا الْوَجْهِ يُخَيَّرُ لِاشْتِمَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى فَضِيلَةٍ وَهُوَ الصَّدَقَةُ وَالصِّلَةُ فَيُخَيِّرُ بَيْنَ الْخَيْرَيْنِ.
قَالَ (وَالْمُوصَى بِهِ يُمْلَكُ بِالْقَبُولِ) خِلَافًا لِزُفَرَ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ.
هُوَ يَقُولُ: الْوَصِيَّةُ أُخْتُ الْمِيرَاثِ، إذْ كُلٌّ مِنْهُمَا خِلَافَةٌ لِمَا أَنَّهُ انْتِقَالٌ، ثُمَّ الْإِرْثُ يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ فَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ.
وَلَنَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ إثْبَاتُ مِلْكٍ جَدِيدٍ، وَلِهَذَا لَا يُرَدُّ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْبِ، وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ، وَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ إثْبَاتَ الْمِلْكِ لِغَيْرِهِ إلَّا بِقَبُولِهِ، أَمَّا الْوِرَاثَةُ فَخِلَافَةٌ حَتَّى يَثْبُتَ فِيهَا هَذِهِ الْأَحْكَامُ فَيَثْبُتُ جَبْرًا مِنْ الشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ.
قَالَ (إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ أَنْ يَمُوتَ الْمُوصِي ثُمَّ يَمُوتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الْقَبُولِ فَيَدْخُلُ الْمُوصَى بِهِ فِي مِلْكِ وَرَثَتِهِ) اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ تَبْطُلَ الْوَصِيَّةُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ عَلَى الْقَبُولِ فَصَارَ كَمَوْتِ الْمُشْتَرِي قَبْلَ قَبُولِهِ بَعْدَ إيجَابِ الْبَائِعِ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ مِنْ جَانِبِ الْمُوصِي قَدْ تَمَّتْ بِمَوْتِهِ تَمَامًا لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ مِنْ جِهَتِهِ، وَإِنَّمَا تَوَقَّفَتْ لِحَقِّ الْمُوصَى لَهُ، فَإِذَا مَاتَ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ الْخِيَارُ إذَا مَاتَ قَبْلَ الْإِجَازَةِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُوصِيَ الْإِنْسَانُ) وَاضِحٌ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ التَّقْلِيلَ فِي الْوَصِيَّةِ أَفْضَلُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ «إنَّك إنْ تَدَعْ عِيَالَكَ» الْحَدِيثَ، وَمَعْنَاهُ وَرَثَتُكَ أَقْرَبُ إلَيْكَ مِنْ الْأَجَانِبِ، فَتَرْكُ الْمَالِ لَهُمْ خَيْرٌ مِنْ الْوَصِيَّةِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ قَالَا: لَأَنْ يُوصِيَ بِالْخُمُسِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ أَنْ يُوصِيَ بِالرُّبُعِ، وَلَأَنْ يُوصِيَ بِالرُّبُعِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ أَنْ يُوصِيَ بِالثُّلُثِ.
وَالْكَاشِحُ: الْعَدُوُّ الَّذِي وَلِيَ كَشْحَهُ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الْخَاصِرَةِ إلَى الضِّلْعِ، وَقِيلَ الْكَاشِحُ: الَّذِي أَضْمَرَ الْعَدَاوَةَ فِي كَشْحِهِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ هَذَا التَّصَدُّقَ أَفْضَلَ؛ لِأَنَّ فِي التَّصَدُّقِ عَلَيْهِ مُخَالَفَةَ النَّفْسِ وَقَهْرَهَا.
وَقَوْلُهُ (وَالْمُوصَى بِهِ يُمْلَكُ بِالْقَبُولِ) وَاضِحٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَيْهِ قُبَيْلَ هَذَا.
وَقَوْلُهُ (وَلِهَذَا لَا يَرُدُّ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْبِ) صُورَتُهُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْمَرِيضُ شَيْئًا وَيُوصِيَ بِهِ لِرَجُلٍ ثُمَّ الْمُوصَى لَهُ يَجِدُهُ مَعِيبًا فَإِنَّهُ لَا يَرُدُّهُ عَلَى بَائِعِهِ (وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ) صُورَتُهُ أَنْ يُوصِيَ بِجَمِيعِ مَالِهِ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ بَاعَ شَيْئًا مِنْ التَّرِكَةِ وَوَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهِ عَيْبًا لَا يَرُدُّهُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ، وَلَوْ كَانَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُوصَى لَهُ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ لَثَبَتَ وِلَايَةُ الرَّدِّ فِي الصُّورَتَيْنِ جَمِيعًا كَمَا فِي الْوَارِثِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ إثْبَاتَ الْمِلْكِ لِغَيْرِهِ إلَّا بِقَبُولِهِ)؛ لِئَلَّا يَعُودَ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَنْفِيذَ الْوَصِيَّةِ لِمَنْفَعَةِ الْمُوصَى لَهُ وَلَوْ أَثْبَتْنَا الْمِلْكَ لَهُ قَبْلَ قَبُولِهِ لِرُبَّمَا تَضَرَّرَ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أَوْصَى لَهُ بِعَبْدٍ أَعْمَى وَجَبَ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ بِلَا مَنْفَعَةٍ تَعُودُ إلَيْهِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَقَوْلُهُ (إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَالْمُوصَى بِهِ يُمْلَكُ بِالْقَبُولِ: يَعْنِي إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنَّهَا تُمْلَكُ بِدُونِ الْقَبُولِ. قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ لَمْ تَجُزْ الْوَصِيَّةُ) لِأَنَّ الدَّيْنَ يُقَدَّمُ عَلَى الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ أَهَمُّ الْحَاجَتَيْنِ فَإِنَّهُ فَرْضٌ وَالْوَصِيَّةُ تَبَرُّعٌ، وَأَبَدًا يُبْدَأْ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ.
(إلَّا أَنْ يُبَرِّئَهُ الْغُرَمَاءُ) لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ الدَّيْنُ فَتَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ عَلَى الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهَا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ؛ (لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ) يَعْنِي فِي الْحُكْمِ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا التَّقَدُّمُ مُخَالِفٌ لِنَظْمِ الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي مُخْتَصَرِ الضَّوْءِ فِي الْفَرَائِضِ. قَالَ (وَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ الصَّبِيِّ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَصِحُّ إذَا كَانَ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجَازَ وَصِيَّةَ يَفَاعٍ أَوْ يَافَاعٍ وَهُوَ الَّذِي رَاهَقَ الْحُلُمَ، وَلِأَنَّهُ نَظَرَ لَهُ بِصَرْفِهِ إلَى نَفْسِهِ فِي نَيْلِ الزُّلْفَى، وَلَوْ لَمْ تَنْفُذْ يَبْقَى عَلَى غَيْرِهِ.
وَلَنَا أَنَّهُ تَبَرُّعٌ وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مَلْزُومٍ وَفِي تَصْحِيحِ وَصِيَّتِهِ قَوْلٌ بِإِلْزَامِ قَوْلِهِ وَالْأَثَرُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِالْحُلُمِ مَجَازًا أَوْ كَانَتْ وَصِيَّتُهُ فِي تَجْهِيزِهِ وَأَمْرِ دَفْنِهِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَهُوَ يُحْرِزُ الثَّوَابَ بِالتَّرْكِ عَلَى وَرَثَتِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي النَّفْعِ وَالضَّرَرِ النَّظَرُ إلَى أَوْضَاعِ التَّصَرُّفَاتِ لَا إلَى مَا يَتَّفِقُ بِحُكْمِ الْحَالِ اعْتَبَرَهُ بِالطَّلَاقِ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ وَلَا وَصِيَّهُ وَإِنْ كَانَ يَتَّفِقُ نَافِعًا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَكَذَا إذَا أَوْصَى ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ وَقْتَ الْمُبَاشَرَةِ وَكَذَا إذَا قَالَ إذَا أَدْرَكْت فَثُلُثُ مَالِي لِفُلَانٍ وَصِيَّةً لِقُصُورِ أَهْلِيَّتِهِ فَلَا يَمْلِكُهُ تَنْجِيزًا وَتَعْلِيقًا كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ لِأَنَّ أَهْلِيَّتَهُمَا مُسْتَتِمَّةٌ وَالْمَانِعُ حَقُّ الْمَوْلَى فَتَصِحُّ إضَافَتُهُ إلَى حَالِ سُقُوطِهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ الصَّبِيِّ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ لَمْ تَنْفُذْ تَبْقَى عَلَى غَيْرِهِ) يَعْنِي إذَا نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ كَانَ مَالُهُ بَاقِيًا عَلَى نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِهَا نَيْلُ الزُّلْفَى وَالدَّرَجَةِ الْعُلْيَا، وَلَوْ لَمْ تَنْفُذْ يَبْقَى مَالُهُ عَلَى غَيْرِهِ فَكَانَ الْوَصِيَّةُ أَوْلَى.
وَقَوْلُهُ (وَالْأَثَرُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِالْحُلُمِ) يَعْنِي كَانَ بَالِغًا لَمْ يَمْضِ عَلَى بُلُوغِهِ زَمَانٌ كَثِيرٌ، وَمِثْلُهُ يُسَمَّى يَافِعًا مَجَازًا تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِاسْمِ مَا كَانَ عَلَيْهِ، أَوْ كَانَتْ وَصِيَّتُهُ فِي تَجْهِيزِهِ وَأَمْرِ دَفْنِهِ.
وَرُدَّ بِأَنَّهُ صَحَّ فِي رِوَايَةِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ غُلَامًا لَمْ يَحْتَلِمْ، وَأَنَّهُ أَوْصَى لِابْنَةِ عَمٍّ لَهُ بِمَالٍ فَكَيْفَ يَصِحُّ التَّأْوِيلُ بِكَوْنِهِ يَافِعًا مَجَازًا أَوْ بِكَوْنِ الْوَصِيَّةِ فِي التَّجْهِيزِ وَأَمْرِ الدَّفْنِ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ كَانَ غُلَامًا لَمْ يَحْتَلِمْ مَعْنَى الْيَافِعِ حَقِيقَةً فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي نَقَلَهُ بِمَعْنَاهُ.
وَقَوْلُهُ (أَنَّهُ أَوْصَى لِابْنَةِ عَمٍّ لَهُ بِمَالٍ) لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِتَجْهِيزِهِ وَأَمْرِ دَفْنِهِ.
قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَالِاحْتِجَاجُ بِهَذَا الْأَثَرِ لَا يَصِحُّ مِنْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ مُرْسَلٌ؛ لِأَنَّهُ رِوَايَةُ عُمَرَ وَابْنِ سُلَيْمٍ وَهُوَ لَمْ يَلْقَ عُمَرَ، وَعِنْدَنَا الْمُرْسَلُ وَإِنْ كَانَ حُجَّةً لَكِنَّ هَذَا يُخَالِفُ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ» وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَلَمِ التَّكْلِيفُ وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ مِنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: هُوَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} الْآيَةَ، فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّبِيَّ مَمْنُوعٌ عَنْ مَالِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَهُوَ يُحْرِزُ الثَّوَابَ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ؛ وَلِأَنَّهُ نَظَرَ لَهُ بِصَرْفِهِ إلَى نَفْسِهِ فِي نَيْلِ الزُّلْفَى.
وَقَوْلُهُ (كَمَا بَيَّنَّاهُ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ فَالتَّرْكُ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَى الْقَرِيبِ إلَخْ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ إمَّا أَفْضَلِيَّةَ التَّرْكِ فِي الثَّوَابِ أَوْ تَسَاوِيهِمَا فِيهِ، وَقَوْلُهُ (وَالْمُعْتَبَرُ فِي النَّفْعِ وَالضَّرَرِ) تَنْزِلُ فِي الْجَوَابِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: سَلَّمْنَا أَنَّ بِالْوَصِيَّةِ يَحْصُلُ الثَّوَابُ دُونَ تَرْكِهَا، لَكِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي النَّفْعِ وَالضَّرَرِ هُوَ النَّظَرُ إلَى أَوْضَاعِ التَّصَرُّفَاتِ دُونَ الْعَوَارِضِ اللَّاحِقَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ نَافِعًا بِأَنْ يُطَلِّقُ امْرَأَةً مُعْسِرَةً شَوْهَاءَ وَيَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا الْمُوسِرَةِ الْحَسْنَاءِ لِكَوْنِ ذَلِكَ مِنْ الْعَوَارِضِ، وَالْوَصِيَّةُ فِي الْأَصْلِ تَبَرُّعٌ وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ) يَعْنِي إذَا قَالَ الْعَبْدُ أَوْ الْمُكَاتَبُ إذَا أُعْتِقْت فَثُلُثُ مَالِي وَصِيَّةٌ يَصِحُّ (لِأَنَّ أَهْلِيَّتَهُمَا مُسْتَتَمَّةٌ) أَيْ تَامَّةٌ وَالْمَانِعُ حَقُّ الْمَوْلَى فَتَصِحُّ إضَافَتُهُ إلَى حَالِ سُقُوطِ الْمَانِعِ. قَالَ (وَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ الْمُكَاتَبِ وَإِنْ تَرَكَ وَفَاءً) لِأَنَّ مَالَهُ لَا يَقْبَلُ التَّبَرُّعَ، وَقِيلَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَصِحُّ، وَعِنْدَهُمَا تَصِحُّ رَدًّا لَهَا إلَى مُكَاتَبٍ يَقُولُ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فِيمَا أَسْتَقْبِلُ فَهُوَ حُرٌّ ثُمَّ عَتَقَ فَمَلَكَ، وَالْخِلَافُ فِيهَا مَعْرُوفٌ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ الْمُكَاتَبِ) يَعْنِي تَنْجِيزَهُ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الْعِتْقِ صَحِيحَةٌ كَمَا مَرَّ آنِفًا.
وَقَوْلُهُ (وَالْخِلَافُ فِيهَا مَعْرُوفٌ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ) يَعْنِي فِي بَابِ الْحِنْثِ فِي مِلْكِ الْمُكَاتَبِ وَالْمَأْذُونِ مِنْ أَيْمَانِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ، وَمَا عُرِفَ ثَمَّةَ هُوَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فِيمَا أَسْتَقْبِلُ فَهُوَ حُرٌّ فَعَتَقَ فَمَلَكَ لَمْ يَعْتِقْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَتَقَ عِنْدَهُمَا، لَهُمَا أَنَّ ذِكْرَ الْمِلْكِ يَنْصَرِفُ إلَى مِلْكٍ كَامِلٍ قَابِلٍ لِلْإِعْتَاقِ وَهُوَ مَا بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ لِلْمُكَاتَبِ نَوْعَيْنِ مِنْ الْمِلْكِ: أَحَدَهُمَا ظَاهِرٌ وَهُوَ مَا قَبْلَ الْإِعْتَاقِ، وَالثَّانِيَ: غَيْرُ ظَاهِرٍ وَهُوَ مَا بَعْدَ الْإِعْتَاقِ فَيَنْصَرِفُ الْيَمِينُ إلَى الظَّاهِرِ دُونَ غَيْرِ الظَّاهِرِ. قَالَ (وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِلْحَمْلِ وَبِالْحَمْلِ إذَا وُضِعَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ اسْتِخْلَافٌ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّهُ يَجْعَلُهُ خَلِيفَةً فِي بَعْضِ مَالِهِ وَالْجَنِينُ صَلَحَ خَلِيفَةً فِي الْإِرْثِ فَكَذَا فِي الْوَصِيَّةِ إذْ هِيَ أُخْتُهُ، إلَّا أَنْ يَرْتَدَّ بِالرَّدِّ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، بِخِلَافِ الْهِبَةِ، لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ مَحْضٌ وَلَا وِلَايَةَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ لِيُمَلِّكَهُ شَيْئًا.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ بِعَرْضِ الْوُجُودِ، إذْ الْكَلَامُ فِيمَا إذَا عُلِمَ وُجُودُهُ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ، وَبَابُهَا أَوْسَعُ لِحَاجَةِ الْمَيِّتِ وَعَجْزِهِ، وَلِهَذَا تَصِحُّ فِي غَيْرِ الْمَوْجُودِ كَالثَّمَرَةِ فَلَأَنْ تَصِحَّ فِي الْمَوْجُودِ أَوْلَى.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِلْحَمْلِ) مِثْلُ أَنْ يَقُولَ أَوْصَيْت بِثُلُثِ مَالِي لِمَا فِي بَطْنِ فُلَانَةَ (وَبِالْحَمْلِ) كَمَا إذَا أَوْصَى بِمَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْمَوْلَى إذَا عَلِمَ أَنَّهُ ثَابِتٌ مَوْجُودٌ فِي الْبَطْنِ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ لَهُ أَوْ بِهِ، وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ بِأَنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ وَصَحَّحَهُ الْإِسْبِيجَابِيِّ فِي شَرْحِ الْكَافِي، وَمِنْ وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصِي عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ (أَمَّا الْأَوَّلُ) وَهُوَ الْوَصِيَّةُ لِلْحَمْلِ (فَلِأَنَّهَا اسْتِخْلَافٌ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُهُ خَلِيفَةً فِي بَعْضِ مَالِهِ) بَعْدَ مَوْتِهِ لَا أَنَّهُ يَمْلِكُهُ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِخْلَافُ يَصْلُحُ لَهُ الْجَنِينُ إرْثًا فَكَذَا وَصِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُمَا أُخْتَانِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتَا أُخْتَيْنِ لَمَا جَازَ رَدُّهَا كَمَا لَمْ يَجُزْ رَدُّهُ أَجَابَ بِقَوْلِهِ (إلَّا أَنَّهُ) أَيْ فِعْلَ الْوَصِيَّةِ أَوْ الْإِيصَاءِ (يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّمْلِيكِ) دُونَ الْمِيرَاثِ لِعَدَمِ ذَلِكَ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْهِبَةِ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِلْحَمْلِ: يَعْنِي أَنَّ الْهِبَةَ لِلْحَمْلِ لَا تَصِحُّ؛ (لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ مَحْضٌ) وَالْجَنِينُ لَيْسَ بِصَالِحٍ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ بِالْهِبَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْقَبْضِ (وَلَا قُدْرَةَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ لِيُمَلِّكَهُ شَيْئًا) يَحْصُلُ الْمِلْكُ فِيهِ بِالْقَبْضِ.
وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ الْوَصِيَّةُ بِهِ (فَلِأَنَّهُ) أَيْ الْحَمْلَ (بِعَرْضِيَّةِ الْوُجُودِ)، إذْ الْكَلَامُ فِيمَا إذَا عُلِمَ وُجُودُهُ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ، فَإِنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا وَضَعَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ أَوْ الْمَوْتِ وَبِذَلِكَ يُعْلَمُ وُجُودُ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ لَا مَحَالَةَ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ وُجُودُ شَيْءٍ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا؛ وَإِذَا كَانَ مَوْجُودًا لَا يَكُونُ بِعَرْضِ الْوُجُودِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ بِعَرْضِ الْوُجُودِ بِعَرْضِ وُجُودٍ يَصْلُحُ لِوُرُودِ الْقَبْضِ عَلَيْهِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ إذَا عُلِمَ وُجُودُهُ تَحَقُّقُهُ وَكَوْنُهُ فِي بَطْنِ الْأُمِّ فَانْدَفَعَ التَّنَاقُضُ.
وَقَوْلُهُ (وَبَابُهَا أَوْسَعُ لِحَاجَةِ إلَخْ) وَإِنْ اخْتَلَجَ فِي ذِهْنِك تَنَاقُضٌ آخَرُ بَيْنَ سَعْيِهِ لِإِثْبَاتِ الْوُجُودِ لِجَوَازِ الْوَصِيَّةِ وَتَوْضِيحِهِ لِلْجَوَازِ بِصِحَّتِهَا فِي غَيْرِ الْمَوْجُودِ، فَالْجَوَابُ سَتَسْمَعُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى بِجَارِيَةٍ إلَّا حَمْلَهَا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ وَالِاسْتِثْنَاءُ) لِأَنَّ اسْمَ الْجَارِيَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْحَمْلَ لَفْظًا وَلَكِنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِالْإِطْلَاقِ تَبَعًا، فَإِذَا أَفْرَدَ الْأُمَّ بِالْوَصِيَّةِ صَحَّ إفْرَادُهَا، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ إفْرَادُ الْحَمْلِ بِالْوَصِيَّةِ فَجَازَ اسْتِثْنَاؤُهُ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ أَنَّ مَا يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهُ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَمَا لَا يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهُ، وَقَدْ مَرَّ فِي الْبُيُوعِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ أَوْصَى بِجَارِيَةٍ) يَعْنِي مَنْ قَالَ أَوْصَيْتُ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ لِفُلَانٍ إلَّا حَمْلَهَا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ وَالِاسْتِثْنَاءُ جَمِيعًا؛ (لِأَنَّ اسْمَ الْجَارِيَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْحَمْلَ لَفْظًا)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْضُوعٍ لَهُ وَلَا هُوَ دَاخِلٌ فِي الْمَوْضُوعِ، وَمَا لَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْجَارِيَةِ صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الْجَارِيَةِ كَقَمِيصِهَا وَسَرَاوِيلِهَا مِمَّا يَتَلَبَّسُ بِهَا، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى مَا يُقَالُ الْحَمْلُ جُزْءٌ مِنْ الْأُمِّ قَبْلَ الِانْفِصَالِ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ، وَلَوْ اسْتَثْنَى الْيَدَ أَوْ الرِّجْلَ لَمْ يَجُزْ فَكَذَلِكَ الْحَمْلُ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْجَارِيَةِ يَتَنَاوَلُهُمَا.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَهُوَ تَصَرُّفٌ لَفْظِيٌّ لَا يَرِدُ عَلَى مَا لَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ؛ فَالْجَوَابُ أَنَّ صِحَّتَهُ بِاعْتِبَارِ تَقْرِيرِ مِلْكِ الْمُوصَى فِيهِ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ، كَمَا لَوْ قَالَ أَوْصَيْتُ لِفُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إلَّا فَرَسًا؛ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ فِي الْأَلْفِ صَحِيحَةٌ وَالِاسْتِثْنَاءُ أَيْضًا صَحِيحٌ فِي تَقْرِيرِ مِلْكِهِ فِي الْفَرَسِ لَا بِاعْتِبَارِ خُرُوجِهِ عَنْ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا.
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اسْمَ الْجَارِيَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْحَمْلَ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْتَثْنِ اسْتَحَقَّهُ الْمُوصَى لَهُ، وَلَوْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ لَمَا اسْتَحَقَّهُ كَغَيْرِهِ مِنْ أَحْوَالِهِ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَلَكِنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِالْإِطْلَاقِ تَبَعًا: يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ بِالْعُمُومِ بَلْ يَسْتَحِقُّ إذَا أَطْلَقَ الْمُوصِي عَنْ قَيْدِ الْإِفْرَادِ فَإِذَا أَفْرَدَ الْأُمَّ لَمْ يَبْقَ مُطْلَقًا بَلْ تَقَيَّدَتْ الْأُمُّ بِالْإِفْرَادِ فَصَحَّتْ الْوَصِيَّةُ بِهَا مُفْرَدَةً.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ) قَدْ ذَكَرَهُ فِي الْبُيُوعِ. قَالَ (وَيَجُوزُ لِلْمُوصِي الرُّجُوعُ عَنْ الْوَصِيَّةِ) لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ لَمْ يَتِمَّ فَجَازَ الرُّجُوعُ عَنْهُ كَالْهِبَةِ وَقَدْ حَقَقْنَاهُ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ، وَلِأَنَّ الْقَبُولَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمَوْتِ وَالْإِيجَابُ يَصِحُّ إبْطَالُهُ قَبْلَ الْقَبُولِ كَمَا فِي الْبَيْعِ.
قَالَ (وَإِذَا صَرَّحَ بِالرُّجُوعِ أَوْ فَعَلَ مَا يَدُلُّ عَلَى الرُّجُوعِ كَانَ رُجُوعًا) أَمَّا الصَّرِيحُ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا الدَّلَالَةُ لِأَنَّهَا تَعْمَلُ عَمَلَ الصَّرِيحِ فَقَامَ مَقَامَ قَوْلِهِ قَدْ أُبْطِلَتْ، وَصَارَ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ الْخِيَارُ فِيهِ بِالدَّلَالَةِ، ثُمَّ كُلُّ فِعْلٍ لَوْ فَعَلَهُ الْإِنْسَانُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ يَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ الْمَالِكِ، فَإِذَا فَعَلَهُ الْمُوصِي كَانَ رُجُوعًا، وَقَدْ عَدَدْنَا هَذِهِ الْأَفَاعِيلَ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ.
وَكُلُّ فِعْلٍ يُوجِبُ زِيَادَةً فِي الْمُوصَى بِهِ وَلَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ إلَّا بِهَا فَهُوَ رُجُوعٌ إذَا فَعَلَهُ، مِثْلُ السَّوِيقِ يَلُتُّهُ بِالسَّمْنِ وَالدَّارِ يَبْنِي فِيهِ الْمُوصِي وَالْقُطْنِ يَحْشُو بِهِ وَالْبِطَانَةِ يُبَطِّنُ بِهَا وَالظِّهَارَةِ يُظَهِّرُ بِهَا، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُهُ بِدُونِ الزِّيَادَةِ، وَلَا يُمْكِنُ نَقْضُهَا لِأَنَّهُ حَصَلَ فِي مِلْكِ الْمُوصِي مِنْ جِهَتِهِ، بِخِلَافِ تَخْصِيصِ الدَّارِ الْمُوصَى بِهَا وَهَدْمِ بِنَائِهَا لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي التَّابِعِ، وَكُلُّ تَصَرُّفٍ أَوْجَبَ زَوَالَ مِلْكِ الْمُوصِي فَهُوَ رُجُوعٌ، كَمَا إذَا بَاعَ الْعَيْنَ الْمُوصَى بِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ أَوْ وَهَبَهُ تَمَّ رَجَعَ فِيهِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَنْفُذُ إلَّا فِي مِلْكِهِ، فَإِذَا أَزَالَهُ كَانَ رُجُوعًا.
وَذَبْحُ الشَّاةِ الْمُوصَى بِهَا رُجُوعٌ لِأَنَّهُ لِلصَّرْفِ إلَى حَاجَتِهِ عَادَةً، فَصَارَ هَذَا الْمَعْنَى أَصْلًا أَيْضًا، وَغَسْلُ الثَّوْبِ الْمُوصَى بِهِ لَا يَكُونُ رُجُوعًا لِأَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَ ثَوْبَهُ غَيْرَهُ يَغْسِلُهُ عَادَةً فَكَانَ تَقْرِيرًا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَيَجُوزُ لِلْمُوصِي الرُّجُوعُ عَنْ الْوَصِيَّةِ) الرُّجُوعُ عَنْ الْوَصِيَّةِ جَائِزٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ تَبَرُّعٌ لَمْ يَتِمَّ؛ لِأَنَّ تَمَامَهَا بِمَوْتِ الْمُوصِي وَالتَّبَرُّعُ التَّامُّ كَالْهِبَةِ جَازَ الرُّجُوعُ فِيهِ فَفِيمَا لَمْ يَتِمَّ أَوْلَى.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَبُولَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمَوْتِ، وَالْإِيجَابُ الْمُفْرَدُ يَجُوزُ إبْطَالُهُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ كَمَا فِي الْبَيْعِ فَفِي التَّبَرُّعِ أَوْلَى، ثُمَّ الرُّجُوعُ قَدْ يَكُونُ صَرِيحًا وَهُوَ أَنْ يَقُولَ رَجَعْتُ عَمَّا أَوْصَيْتُ بِهِ لِفُلَانٍ، وَقَدْ يَكُونُ دَلَالَةً وَلَهُ أَنْوَاعٌ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ لَهَا فِي الْكِتَابِ ضَوَابِطَ هِيَ جَامِعَةٌ وَاضِحَةٌ. قَالَ (وَإِنْ جَحَدَ الْوَصِيَّةَ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا) كَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَكُونُ رُجُوعًا، لِأَنَّ الرُّجُوعَ نَفْيٌ فِي الْحَالِ وَالْجُحُودَ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ رُجُوعًا، وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْجُحُودَ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَالِانْتِفَاءُ فِي الْحَالِ ضَرُورَةُ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ ثَابِتًا فِي الْحَالِ كَانَ الْجُحُودُ لَغْوًا، أَوْ لِأَنَّ الرُّجُوعَ إثْبَاتٌ فِي الْمَاضِي وَنَفْيٌ فِي الْحَالِ وَالْجُحُودَ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ فَلَا يَكُونُ رُجُوعًا حَقِيقَةً وَلِهَذَا لَا يَكُونُ جُحُودُ النِّكَاحِ فُرْقَةً وَلَوْ قَالَ كُلُّ وَصِيَّةٍ أَوْصَيْت بِهَا لِفُلَانٍ فَهُوَ حَرَامٌ وَرِبًا لَا يَكُونُ رُجُوعًا لِأَنَّ الْوَصْفَ يَسْتَدْعِي بَقَاءَ الْأَصْلِ (بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ فَهِيَ بَاطِلَةٌ) لِأَنَّهُ الذَّاهِبُ الْمُتَلَاشِي (وَلَوْ قَالَ أَخَّرْتهَا لَا يَكُونُ رُجُوعًا) لِأَنَّ التَّأْخِيرَ لَيْسَ لِلسُّقُوطِ كَتَأْخِيرِ الدَّيْنِ (بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ تَرَكْت) لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ (وَلَوْ قَالَ الْعَبْدُ الَّذِي أَوْصَيْت بِهِ لِفُلَانٍ فَهُوَ لِفُلَانٍ كَانَ رُجُوعًا) لِأَنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ (بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى بِهِ لِرَجُلٍ ثُمَّ أَوْصَى بِهِ لِآخَرَ) لِأَنَّ الْمَحِلَّ يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ وَاللَّفْظَ صَالِحٌ لَهَا (وَكَذَا إذَا قَالَ فَهُوَ لِفُلَانٍ وَارِثِي يَكُونُ رُجُوعًا عَنْ الْأَوَّلِ) لِمَا بَيَّنَّا وَيَكُونُ وَصِيَّةً لِلْوَارِثِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ (وَلَوْ كَانَ فُلَانٌ الْآخَرُ مَيِّتًا حِينَ أَوْصَى فَالْوَصِيَّةُ الْأُولَى عَلَى حَالِهَا) لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ الْأُولَى إنَّمَا تَبْطُلُ ضَرُورَةَ كَوْنِهَا لِلثَّانِي وَلَمْ يَتَحَقَّقْ فَبَقِيَ لِلْأَوَّلِ (وَلَوْ كَانَ فُلَانٌ حِينَ قَالَ ذَلِكَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي فَهِيَ لِلْوَرَثَةِ) لِبُطْلَانِ الْوَصِيَّتَيْنِ الْأُولَى بِالرُّجُوعِ وَالثَّانِيَةِ بِالْمَوْتِ.
الشَّرْحُ:

وَقَوْلُهُ (وَإِنْ جَحَدَ الْوَصِيَّةَ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا، كَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ) اعْلَمْ أَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّ جُحُودَ الْوَصِيَّةِ لَيْسَ بِرُجُوعٍ، وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّهُ رُجُوعٌ، فَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ حَمَلَ الْمَذْكُورَ فِي الْجَامِعِ عَلَى الْجُحُودِ فِي غَيْبَةِ الْمُوصَى لَهُ، وَهُوَ لَيْسَ بِرُجُوعٍ فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ الْجُحُودَ إنَّمَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ إذَا صَحَّ الْإِنْكَارُ، وَالْإِنْكَارُ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُعَارَضَةِ الْمُقْتَضِيَةِ مُعَارِضًا، وَالْمَذْكُورُ فِي الْمَبْسُوطِ مَحْمُولٌ عَلَى الْجُحُودِ بِحَضْرَةِ الْمُوصَى لَهُ وَهُوَ رُجُوعٌ فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا لِصِحَّةِ الْإِنْكَارِ حِينَئِذٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ الْمَذْكُورَ فِي الْجَامِعِ عَلَى صُورَةِ الْجُحُودِ لَا عَلَى الْجُحُودِ الْحَقِيقِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: إذَا أَوْصَى الرَّجُلُ لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ ثُمَّ قَالَ لِقَوْمٍ اشْهَدُوا أَنِّي لَمْ أُوصِ لِفُلَانٍ لَا بِقَلِيلٍ وَلَا بِكَثِيرٍ لَا يَكُونُ هَذَا رُجُوعًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ اشْهَدُوا أَنِّي لَمْ أُوصِ لِفُلَانٍ طَلَبُ شَهَادَةِ الزُّورِ مِنْهُمْ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ قَدْ أَوْصَيْتُ لِفُلَانٍ بِكَذَا، إلَّا أَنِّي سَأَلْتُكُمْ أَنْ تَشْهَدُوا لِي بِالْبَاطِلِ، وَطَلَبُ شَهَادَةٍ بِالْبَاطِلِ لَا يَكُونُ رُجُوعًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجُحُودٍ حَقِيقَةً، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ عَلَى الْجُحُودِ الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ رُجُوعٌ عَلَى الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ جَوَابُ الْقِيَاسِ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْمَبْسُوطِ جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: وَهُوَ الْأَصَحُّ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْمَبْسُوطِ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: هُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّى قَالَ فِي نَوَادِرِهِ: قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا يُوسُفَ عَنْ رَجُلٍ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِوَصِيَّةٍ ثُمَّ جَحَدَ، قَالَ: يَكُونُ رُجُوعًا، وَسَأَلْتُ مُحَمَّدًا قَالَ: لَا يَكُونُ الْجُحُودُ رُجُوعًا، وَهُوَ مُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ وَاسْتَدَلَّ لِأَبِي يُوسُفَ بِأَنَّ الرُّجُوعَ نَفْيٌ فِي الْحَالِ وَالْجُحُودَ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ، وَإِذَا كَانَ نَفْيُ الْحَالِ وَحْدَهُ رُجُوعًا فَنَفْيُ الْمَاضِي وَالْحَالِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ رُجُوعًا (وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْجُحُودَ) وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لَمْ أُوصِ لِفُلَانٍ أَوْ مَا أَوْصَيْت لَهُ (نَفْيٌ فِي الْمَاضِي) لِكَوْنِهِ مَوْضُوعًا لِذَلِكَ، وَالِانْتِفَاءُ فِي الْحَالِ ضَرُورَةُ ذَلِكَ لِاسْتِمْرَارِ ذَلِكَ إنْ ثَبَتَ مَا لَمْ يُغَيَّرْ، وَإِذَا كَانَ الْكَذِبُ ثَابِتًا فِي الْحَالِ لِكَوْنِهِ كَاذِبًا فِي جُحُودِهِ إذْ الْفَرْضُ أَنَّهُ أَوْصَى ثُمَّ جَحَدَ كَانَ النَّفْيُ فِي الْمَاضِي بَاطِلًا فَيَبْطُلُ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَتِهِ وَهُوَ الِانْتِفَاءُ فِي الْحَالِ فَكَانَ الْجُحُودُ لَغْوًا.
وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ جُعِلَ اسْمُ كَانَ فِي قَوْلِهِ وَإِذَا كَانَ ثَابِتًا فِي الْحَالِ الْوَصِيَّةَ وَفِي بَعْضِهَا الْحَقَّ وَكِلَاهُمَا مُصَادَرَةٌ عَنْ الْمَطْلُوبِ فَتَأَمَّلْ.
وَقَوْلُهُ (أَوْ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ إثْبَاتٌ فِي الْمَاضِي وَنَفْيٌ فِي الْحَالِ، وَالْجُحُودُ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ) دَلِيلٌ آخَرُ تَحْقِيقُهُ أَنَّ أَحَدَهُمَا مُرَكَّبٌ مِنْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَالْآخَرُ مُجَرَّدُ النَّفْيِ، فَلَا يَكُونُ الْجُحُودُ رُجُوعًا حَقِيقَةً وَلَا الْعَكْسُ أَيْضًا.
وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ قَالَ فِي الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ: إنَّ الْجُحُودَ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَالِانْتِفَاءُ فِي الْحَالِ ضَرُورَةُ ذَلِكَ، وَهَاهُنَا قَالَ: وَالْجُحُودُ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَالْحَالُ بَيْنَهُمَا تَنَافٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ كَوْنِ الْجُحُودِ رُجُوعًا حَقِيقَةً عَدَمُ جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ فِيهِ مَجَازًا صَوْنًا لِكَلَامِ الْعَاقِلِ عَنْ الْإِلْغَاءِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ قَوْلَهُ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَالْحَالُ مَعْنَاهُ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَضْعًا وَحَقِيقَةً، وَفِي الْحَالِ ضَرُورَةً لَا وَضْعًا وَهُوَ الْأَوَّلُ فَلَا تَنَافِيَ.
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الرُّجُوعَ وَالْجُحُودَ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَاضِي مُتَضَادَّانِ، وَالتَّضَادُّ لَيْسَ مِنْ مُجَوِّزَاتِ الْمَجَازِ فِي الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي الْأَنْوَارِ وَالتَّقْرِيرِ، وَلِهَذَا لَا يَكُونُ جُحُودُ النِّكَاحِ فُرْقَةً: يَعْنِي مُسْتَعَارًا لِلطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْجُحُودَ يَقْتَضِي عَدَمَ النِّكَاحِ فِي الْمَاضِي وَالطَّلَاقُ يَقْتَضِي وُجُودَهُ فَكَانَا مُتَقَابِلَيْنِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِعَارَةُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ.
وَقَوْله (وَلَوْ قَالَ كُلُّ وَصِيَّةٍ أَوْصَيْتُ بِهَا) وَاضِحٌ، وَقَوْلُهُ؛ (لِأَنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ) قِيلَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ بَيْنَهُمَا حَرْفَ الِاشْتِرَاكِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ تِلْكَ الْوَصِيَّةَ بِعَيْنِهَا لِغَيْرِهِ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى هَذَا التَّعْلِيلِ.
وَقَوْلُهُ (وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ) يُرِيدُ بِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّوَقُّفِ عَلَى إجَازَةِ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ فَإِنْ أَجَازُوا جَازَ وَإِلَّا فَلَا .